مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

تجربة عسيرة وطويلة.. لكنها كانت موفّقة!

سنان نعمان عراقي يقيم ويشتغل في سويسرا
سنان نعمان، عراقي مقيم بلوزان يروي مسيرته المهنية وتجربته الشخصية في سويسرا. swissinfo.ch

عندما جاء سنان نعمان إلى سويسرا لأول مرة، كان ينوي العودة إلى وطنه لإفادة أهل بلده من خبرة جديدة كان سيكتسبها في بلد جبال الألب، والعَمَل في المجال الذي درسه وتفوق فيه. لكن الحَرب المُستَعرة في بلده كانت ترسم له مُستقبلاً مغايراً تماماً.

جاء سنان نعمان إلى سويسرا لأول مرّة في سبتمبر 2006، للإشتراك في دورة تدريبية في شركة “أوسيلّو كوارتزرابط خارجي” (Oscilloquartz) السويسرية في كانتون نوشاتيل. وحينذاك، كان نعمان يعمل في بغداد مع شركة ‘عراقنا’ للإتصالات التي تمثل جزءاً من مجموعة ‘أوراسكوم’ المصرية العالمية المُتعددة النشاطات، والتي قامت بشراء مجموعة من الأجهزة من الشركة السويسرية آنفة الذكر. وكان من ضمن عَقد الشراء، تدريب شركة ‘أوسيلّو كوارتز’ لثلاثة موظفين من ‘عراقنا’ لمرتين؛ الأولى على كيفية إستخدام هذه الأجهزة، والثانية لطريقة تنصيبها. وكان نعمان من ضمن المُتَدَربين في المرتين.

ومع مجيئه للكنفدرالية مرة أخرى لمُتابعة تدريبه الثاني في شهر يناير 2007، كانت الظروف الأمنية والمعيشية في العراق قد ساءَت إلى درجة كبيرة، مع اتساع رُقعة الإقتتال الطائفي الذي عمَّ مُعظم أنحاء العراق ولا سيما بغداد، ووصول عدد القتلى إلى أعلى مستوياته منذ بدء الاحتلال الأمريكي.

هذا الوضع المتوتر، جعل نعمان وزملاءَه يقررون البقاء في سويسرا بعد إكمال دورتهم التدريبية. وهكذا توجه الثلاثة إلى مركز استقبال طالبي اللجوء في ‘فالورب’ Vallorbe (كانتون فو) لتقديم طلبات لجوئهم. وفي حين عاد زميلاه إلى العراق بعد بضعة أيام فقط (بسبب إدراكهم لصعوبة عملية لَم شملهم بأسرهم في سويسرا)، آثر نعمان الذي كان يبلغ الثانية والعشرين آنذاك البقاء. وبعد مكوثه في المركز 46 يوماً، أجريَت معه مقابلة ثانية، ليتم تحويله إلى كانتون فريبورغ بعدها.  

خيار صعب

حيث كان العثور على وظيفة في مجال تخصصه صعب جداً بشهادته العراقية، لم تكن أمام نعمان – الذي درس موضوع الهندسة الإلكترونية والإتصالات في بغداد – سوى ثلاث خيارات. وكما يقول: “كانت هذه مرحلة صعبة ومهمة في حياتي؛ فأما أن أحصل على شهادة فدرالية في مجال مُشابه لتخصصي، وهو ما يعني الدراسة لمدة 5 أعوام للحصول على شهادتَي البكالوريوس والماجستير لكي تُتاح لي فرصة الحصول على وظيفة مناسبة – وهو ما قد يكون استثماراً أو خسارة للجهد والوقت والمال – أو أن أعود إلى العراق، أو أن أمارس أي نوع من العمل كيفما كان”. وفي نهاية المطاف جاء قرار الإنخراط في الحياة الجامعية من جديد، وتم قبول نعمان للدراسة في جامعة جنيفرابط خارجي في عام 2008.

“الشيء الممتاز في سويسرا، هو عَدَم وجود علاقة بين النظام التعليمي ونوعية تصريح الإقامة الذي يَحمله الشخص؛ فالنظامان مُنفصلان عن بعضهما البعض، وباستطاعة أي شخص يتوفر على عنوان في سويسرا الدراسة في البلاد”، كما يقول.

وفي عام 2011، حَصَل نعمان على درجة البكالوريوس في موضوع علوم الحاسبات من جامعة جنيف. إثر ذلك تقدم للحصول على درجة الماجستير في المعهد التقني الفدرالي العالي في زيورخرابط خارجي. وفي السنة الثانية لدراسته، التحق بمركز أبحاث الشركات في مجموعة “أي بي بيرابط خارجي” (ABB) المتعددة الجنسيات في كانتون آرغاو لفترة تدريبية استغرقت ستة أشهر. وفي الأشهر الست اللاحقة، أكمل البحث الخاص برسالة الماجستير في نفس الشركة، ثم عمل فيها مدة ثلاثة أشهر أخرى، كان يبحث خلالها عن وظيفة في سويسرا الروماندية (الناطقة بالفرنسية).

واليوم يعمل نعمان الذي يبلغ الثالثة والثلاثين من العمر كمطور برمجيات في مجموعة التكنولوجيا السويسرية “كودلسكيرابط خارجي” المُتخصصة بصناعة الأجهزة وبرمجيات الأمن الرقمي ونُظم وسائل الإعلام، التي يقع مقرها في لوزان. كما تَوَلّى وظيفة “سكرام ماستر” (Scrum Master) في نفس الشركة في العام المُنقضي لمدة سنة. وحول عمل المجموعة يقول نعمان: “أغلب زبائن الشركة هم من القنوات التلفزيونية المدفوعة الأجر مثل “كنال بلوس” (Canal Plus) الفرنسية العالمية، وشبكة شوتايم “Show time” الأمريكية وغيرها. لكننا توجهنا منذ حوالي سنة إلى مشاريع أخرى مع الولايات المتحدة والصين، مثل مزود خدمة البث الفضائي المباشر في الولايات المتحدة “دش” (Dish) وشركة “هواوي” (Huawei Technologies) الصينية المتعددة الجنسيات العاملة في مجال الإتصالات.

جهد أتى أكله

الصعوبات التي واجهت نعمان في فترة دراسته لم تكن قليلة. وعلى سبيل المثال، كان تصريح الإقامة الذي يحمله من فئة (N)، ومن ثَمَّ تصريح الإقامة (F) الذي حصل عليه بعد سنتين وعشرة أشهر من جوده في الكنفدرالية، يفرض عليه السَكَن في فريبورغ حَصراً. وكان ذلك يعني تنقله اليومي إلى جنيف للدراسة. “كان هذا الأمر صعباً. ولتوفير المال والوقت، كنت أضطر للسكن عند بعض الأصدقاء في جنيف أحياناً”، كما يقول.

بعد مُباشرته لعمله، بدأ نعمان بتسديد أموال المساعدات الإجتماعية، إذ كان يَتَعَيَّن على اللاجئين الذين يحصلون على حَق البقاء والعمل في سويسرا، تسليم ما يصل إلى 10% من أجورهم لمدة تصل إلى عشر سنوات، حيث يقوم رَب العمل بتحويلها للكانتون، إلى حَد سداد التكاليف الإجمالية التي صُرِفَت على الشخص، لكن القانون المتعلق بهذا الشأن ألغي مؤخراً في كانتون فُو (عاصمته لوزان).

“لقد ساهَمَت هذه العناصر الثلاثة، أي مدخولي وإعتمادي علي نفسي وانتفاء حاجتي للمساعدات الإجتماعية، وتسديدي البعض منها، واتباعي الطريق الصحيح من خلال إكمالي الدراسة بالمعهد التقني الفدرالي العالي في زيورخ، وعملي في مجموعة ‘أي بي بي’ التي تشغل أكثر من 240,000 موظفاً إلى تحسن حالتي النفسية بدرجة كبيرة”.

مواقف مُتباينة

خلال حديثه، يستذكر نعمان ثلاثة مواقف تعرض لها في سويسرا، أثرت فيه بشكل خاص. الموقف الأول كان في عام 2008، عندما أخبر المسؤولة الإجتماعية عن قبوله في جامعة جنيف، وعودته لمقاعد الدراسة من جديد لفترة تصل إلى 5 أعوام، وسؤالها عن إمكانية دفع بطاقة الإشتراك السنوي العام (GA travelcard) لمساعدته في التنقل بين فريبورغ وجنيف. “حينها سألتني عن سبب إختياري هذا المسار. وعندما أوضحت لها عدم إمكانية حصولي على وظيفة في مجال دراستي بشهادتي العراقية، أجابتني ‘لِمَ لا تلجأ إلى العمل في أحد مطاعم بيع الكباب بدلاً عن ذلك’؟‘” وكما يقول معلقاً: ” قد تكون قصدت أن لجوئي للعمل سيتيح لي الحصول على تصريح إقامة من فئة (B) لكي يكون لديّ وضع ثابت في سويسرا، لكني لم أستحسن الأسلوب الذي لجأت إليه في نَقل هذه الفكرة على الإطلاق”.

الموقف الثاني كان في دائرة إصدار الإقامات بفريبورغ، عندما توجه نعمان لتجديد إقامته من النوع (F)، وكان حينها قد أمضى عشرة أشهر وهو يعمل كمتدرب مع شركة ‘أي بي بي’. “هناك أخبرني شخص بوجود موظفة تطلب مقابلتي. وعندما رأيتها، أخبرَتني بأنها إطَّلَعت على مِلَفي وعَلِمَت بعملي منذ 10 اشهر في هذه الشركة، وأفادتني بأني لو استطعت أكمال عملي هناك لمدة 12 شهراً، فسوف يكون بوسعها تغيير نوعي إقامتي إلى فئة (B)، وهو شيء لم أكن أعرفه حينها”. وفي تلك الفترة كانت خدمة نعمان مع شركة ‘أي بي بي’ على وشك الإنتهاء. لكن، ونزولاً عند نصيحة الموظفة، قام بتمديد عقده مع الشركة ثلاثة أشهر أخرى. وفي وقت لاحق، أجرت هذه السيدة مقابلة ثانية معه للتَعَرُّف على مدى إندماجه في مجتمع فريبورغ. “ورغم أن إجاباتي – لاسيما في المجال السياسي- كانت ضعيفة، (يضحك) إلّا أنها أخبرتني أن المهم بالنسبة لها هو عثوري على عمل، وبأنه من المُجحف أن أظل مُحتفظاً بتصريح إقامة من فئة (F). وفي نهاية المطاف تحول تصريح إقامتي إلى فئة (B)”.

بالتزامن مع ذلك، كان نعمان في موفى عام 2013 بصدد إجراء عدد من المقابلات في مجموعة ‘كودلسكي’ لغرض توظيفه. “كان اللقاء الثاني مع موظف من قسم الموارد البشرية. وبعد أن تحدثنا لأكثر من ساعة، قال لي إن قراره للعام 2014 هو توظيفي معهم. وحيث كنت حينها لا أزال أحمل تصريح الإقامة (F)، الذي لا يتيح لي إمكانية العمل خارج كانتون فريبورغ، قام بالإتصال بمكتب إصدار تصاريح العمل، وأخبر الشخص المسؤول هناك عن وضعي، وبأنني لا أزال أحمل تصريح الإقامة (F)، وأطلعه على موافقة برن تحويل هذا التصريح إلى فئة (B) – بحسب ما أعلمتني السيدة في دائرة إصدار الإقامات – وبأن الشركة راغبة بعملي فيها. وبعد قرابة شهر ونصف، وافق مكتب العمل على مَنحي تصريح عمل بشكل استثنائي. وعلى عكس الحالة الأولى، كان لهذين الموقفين الأخيرين أثراً إيجابياً جداً بالنسبة لي”.

الإهتمام باللاجئين

بعد مباشرته لعمله واستقراره في لوزان، انخرط نعمان وزوجته في مجال العمل التطوعي مع طالبي اللجوء، لا سيما العرب منهم. “كان هناك ملجأ تحت الأرض بالقرب من القرية التي كنا نقيم فيها بداية، وبالقرب منه، كانت هناك جمعية لاستقبال المهاجرين في بلدة إيشالّورابط خارجي وكان العديد من اللاجئين يأتون إلى هذا المكان لوجود الإنترنت. وكنا نذهب إلى هناك مرة في الأسبوع لمدة ثلاث ساعات حيث نتحدث معهم ونساعدهم من خلال تقديم المعلومات أو مُجرد الإصغاء إليهم”. وقد تم إغلاق هذا الملجأ في وقت لاحق وإسكان طالبي اللجوء في مبنى سكني إعتيادي. واليوم، ومع انتقالهما إلى سكن جديد في لوزان، يعمل الزوجان في مشاريع بسيطة لها علاقة بطالبي اللجوء عموماً، أو يقيمان ورش عمل في منظمة استقبال اللاجئين في كانتون فورابط خارجي.

إهتمام نعمان بموضوع اللاجئين كان ظاهراً في الشركة التي يعمل فيها أيضاً. وكما يقول: “في أحد الأيام، أقيمت هناك ورشة تدريبية حول موضوع أسلوب التقديم. وحيث كان على كل شخص عَرض فكرة ما، وقع إختياري على موضوع اللاجئين، وكنت أشرح للحضور من موظفي الشركة مَن هُم اللاجئين ولماذا أصبحوا على هذا الحال، وبأن الفكرة التي كوَّنها المُجتمع عنهم بوصفهم عبئاً لأنهم يعيشون على المساعدات الإجتماعية إنما هي خاطئة. وللتوضيح، ضربت لهم مثلاً بصاحب الشركة الذي كان لاجئا يهوديا من بولندا، وبنفسي حيث كنت أعمل في الشركة. وفي نهاية التقديم، عَرَضت عدداً من الوصلات حول المنظمة التي نعمل بها أنا وزوجتي بشكل تطوعي، لتمكين الأشخاص الذين ليس لهم إحتكاك مباشر باللاجئين من تقديم يد العون، مثل إسكان أحد اللاجئين معهم، أو دعوة أحدهم لتناول طعام العشاء للتعرف على الأكل السويسري، وكذلك لكي يتعرفون وأسَرَهم على الشخصية الكامنة خلف هذا اللاجئ” .

وكما يظهر، كان هناك صدى للموضوع الذي قدمته. فبعد نحو ستة أشهر، التقى نعمان السيدة المسؤولة عن هذه الدورة التدريبية، التي أخبرته بأنها قامت بالتبرع بغرفة من منزلها مجاناً لأحد اللاجئين.

بين الوطن الأم والوطن الجديد

مِثل العديد من الأشخاص الذين جاؤوا كلاجئين إلى سويسرا، وكتبوا قصص نجاحهم بالإجتهاد والمثابرة، يرى نعمان ان الخطوة الأولى والأهم للإندماج في البلاد هي تعلم اللغة “فبدونها ليس بالإمكان تحقيق أي شيء”. وكما يضيف “بعد ذلك يتعيّن على اللاجئ التحقق من إحتمال حاجته إلى شهادة أخرى، أو أن شهادته معترف بها هنا، لكي يستطيع الدخول إلى سوق العمل في نهاية المطاف. كما ينبغي للشخص أن يعمل على تطوير نفسه بكافة الطرق. ومثلاً، عندما كنت أتعلم الفرنسية في فريبورغ، كانت دورات تعلم اللغة التي يقدمها الصليب الأحمر أو منظمة التوجيه والمهام الخاصة (ORS) لا تتعدى مستوى المبتدئين A1 أو A2. وبغية زيادة كفاءتي اللغوية، كنت أعمل حتى الساعة العاشرة ليلاً في إحدى المحلات بجنيف لمدة عشرة أشهر لدفع تكلفة دورات اللغة الفرنسية في مؤسسة تعليم الكبار (IFAGE) التي كنت أتابعها صباحا”.

ومع أن نعمان لا يرى أنه سوف يعود للعراق يوماً حتى لو رجع الإستقرار للبلاد “لوجود فرق في نوعية الحياة بين البلدين”، إلّا أنَّه يفتقر الشعور إلى مكان ينتمي إليه. “عندما أخرج لمُمارسة رياضة المشي مثلاً وأستمتع بهذه الطبيعة الخلابة، يشعر جزءٌ مني بأن هذا قد أصبح وطني الجديد. لكن هذا الإحساس – أي الشعور بالإنتماء – يظل بسيطاً هنا. ما أحبّه عندما أكون في العراق هو أن بإستطاعتي أن أقول أن هذا مكاني وأن هذا الجبل مثلاً ينتمي لي، وأن هذا وطني، فالشعور بالإنتماء موجود هناك”. وكما يضيف: “ربما يأتي هذا الشعور لاحقاً. ما أستطيع فعله بهذا الصدد هو إحترام الثقافة والعادات المحلية، واكتساب ما أراه مناسباً لشخصيتي، وأن أحاول الحِفاظ على العادات والتقاليد الجيّدة لوطني الأم في نفس الوقت”.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية